الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
ولما كان الأمر كما أخبر اللّه به فى قوله: فهذا يوجب على العبد شكره وعبادته وحده، ثم قال: والإنسان إنما يجأر إذا أصابه الضر، وأما في حال النعمة فهو ساكن، إما شاكراً وإما كفوراً: وهذا المعنى قد ذكره الله في غير موضع، يذم من يشرك به بعد كشف البلاء عنه، وإسباغ النعماء عليه، فيضيف العبد ـ بعد ذلك ـ الإنعام إلى غيره، ويعبد غيره تعالى، ويجعل المشكور غيره على النعم، كما قال تعالى: مِّنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ} وقوله: فذم اللّه ـ سبحانه ـ حزبين: حزباً لا يدعونه فى الضراء، ولا يتوبون إليه، وحزباً يدعونه ويتضرعون إليه ويتوبون إليه. فإذا كشف الضر عنهم أعرضوا عنه، وأشركوا به ما اتخذوهم من الأنداد من دونه. فهذا الحزب نوعان ـ كالمعطلة، والمشركة ـ حزب إذا نزل بهم الضر لم يدعو الله ولم يتضرعوا إليه، ولم يتوبوا إليه، كما قال: والممدوح هو القسم الثالث، وهم الذين يدعونه، ويتوبون إليه ويثبتون على عبادته، والتوبة إليه فى حال السراء، فيعبدونه ويطيعونه فى السراء والضراء، وهم أهل الصبر والشكر، كما ذكر ذلك عن أنبيائه ـ عليهم السلام ـ فقال تعالى: فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ} وقـال تعالى عـن المؤمنين الذين قتـل نبيهم: وقوله {قُتِل} أى: النبى قُتِل. وهذا أصح القولين. وقوله: والربيون: الجموع الكثيرة، وهم الألوف الكثيرة. وهذا المعنى هو الذى يناسب سبب النزول، وهو ما أصابهم يوم أُحُد، لما قيل:(إن محمداً قد قتل)، وقد قال قبل ذلك: فإنه عند قتل النبى وموته، تحصل فتنة عظيمة للناس ـ المؤمنين والكافرين ـ وتحصل رِدَّة ونفاق؛ لضعف قلوب أتباعه لموته، ولما يلقيه الشيطان فى قلوب الكافرين: إن هذا قد انقضى أمره، وما بقى يقوم دينه، وإنه لو كان نبىا لما قتل وغلب، ونحو ذلك. فأخبر الله تعالى؛ أنه كم من نبى قتل . فإن بنى إسرائيل قتلوا كثيراً من الأنبياء، والنبى معه ربيون كثير أتباع له، وقد يكون قتله فى غير حرب ولا قتال، بل يقتل وقد اتبعه ربيون كثير، فما وهن المؤمنون لما أصابهم بقتله، وما ضعفوا وما استكانوا، واللّه يحب الصابرين، ولكن استغفروا لذنوبهم التى بها تحصل المصائب ـ فما أصابهم من سيئة فمن أنفسهم ـ وسألوا اللّه أن يغفر لهم، وأن يثبت أقدامهم، فيثبتهم على الإيمان والجهاد لئلا يرتابوا، ولا ينكلوا عن الجهاد، قال تعالى: والمقصود هنا أنه لما كانت الحسنة من إحسانه ـ تعالى ـ والمصائب من نفس الإنسان ـ وإن كانت بقضاء الله وقدره ـ وجب على العبد أن يشكر ربه سبحانه وأن يستغفره من ذنوبه، وألا يتوكل إلا عليه وحده، فلا يأتى بالحسنات إلا هو، فأوجب ذلك للعبد توحيده، والتوكل عليه وحده، والشكر له وحده والاستغفار من الذنوب. وهذه الأمور كان النبى صلى الله عليه وسلم يجمعها فى الصلاة، كما ثبت عنه فى الصحيح: أنه صلى الله عليه وسلم كان إذا رفع رأسه من الركوع، يقول: (ربنا ولك الحمد، ملء السماء وملء الأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد). فهذا حمد، وهو شكر لله ـ تعالى ـ وبيان أن حمده أحق ما قاله العبد، ثم يقول بعد ذلك:(اللهم لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد). وهذا تحقيق لوحدانيته، لتوحيد الربوبية ـ خلقاً وقدراً وبداية وهداية ـ هو المعطى المانع، لا مانع لما أعطى ولا معطى لما منع، ولتوحيد الإلهية ـ شرعا وأمراً ونهياً ـ وهو أن العباد، وإن كانوا يعطون ملكا وعظمة، وبختا ورياسة فى الظاهر أو فى الباطن، كأصحاب المكاشفات والتصرفات الخارقة، فلا ينفع ذا الجد منك الجد، أى: لا ينجيه ولا يخلصه من سؤلك وحسابك حظه وعظمته وغناه. ولهذا قال:(لا ينفعه منك) ولم يقل:(لا ينفعه عندك)، فإنه لو قيل ذلك أوهم أنه لا يتقرب به إليك، لكن قد لا يضره. فيقول صاحب الجد: إذا سلمت من العذاب فى الآخرة فما أبالى، كالذين أوتوا النبوة والملك، لهم ملك فى الدنيا وهم من السعداء، فقد يظن ذو الجد ـ الذى لم يعمل بطاعة الله من بعده ـ أنه كان كذلك، فقال: (ولا ينفع ذا الجد منك)، ضمن (ينفع) معنى (ينجى ويخلص)، فبين أن جده لا ينجيه من العذاب، بل يستحق بذنوبه ما يستحقه أمثاله ولا ينفعه جده منك، فلا ينجيه ولا يخلصه. فتضمن هذا الكلام تحقيق التوحيد، وتحقيق قوله: فقوله:(لا مانع لما أعطيت، ولامعطى لما منعت): توحيد الربوبية الذى يقتضى أنه ـ سبحانه ـ هو الذى يسأل ويدعى، ويتوكل عليه. وهو سبب لتوحيد الإلهية، ودليل عليه، كما يحتج به فى القرآن على المشركين؛ فإن المشركين كانوا يقرون بهذا التوحيد ـ توحيد الربوبية ـ ومع هذا يشركون بالله، فيجعلون له أنداداً، يحبونهم كحب الله، ويقولون: إنهم شفعاؤنا عنده، وإنهم يتقربون بهم إليه. فيتخذونهم شفعاء وقرباناً، كما قال تعالى: وهذا التوحيد هو عبادة اللّه وحده لا شريك له، وألا نعبده إلا بما أحبه وما رضيه، وهو ما أمر به وشرعه على ألسن رسله ـ صلوات الله عليهم ـ فهو متضمن لطاعته وطاعة رسوله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، وأن يكون اللّه ورسوله أحب إلى العبد من كل ما سواهما. وهو يتضمن أن يحب الله حباً لا يماثله ولا يساويه فيه غيره، بل يقتضى أن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه. فإذا كان الرسول ـ لأجل أنه رسول اللّه ـ يجب أن يكون أحب إلى المؤمن من نفسه، فكيف بربه ـ سبحانه وتعالى؟ وفى صحيح البخارى أن عمرقال: يا رسول اللّه، واللّه إنك لأحب إلى من كل شىء، إلا من نفسى . فقال:(لا يا عمر، حتى أكون أحب إليك من نفسك). قال: فوالذى بعثك بالحق، إنك لأحب إلي من نفسى. قال: (الآن يا عمر). وقد قال تعالى: فإن لم يكن الله ورسوله، والجهاد فى سبيله، أحب إلى العبد من الأهل والمال ـ على اختلاف أنواعه ـ فإنه داخل تحت هذا الوعيد. فهذا التوحيد ـ توحيد الإلهية ـ يتضمن فعل المأمور وترك المحظور. ومن ذلك: الصبر على المقدور، كما أن الأول يتضمن الإقرار بأنه لا خالق ولا رازق، ولا معطى ولا مانع، إلا الله وحده، فيقتضى ألا يسأل العبد غيره، ولا يتوكل إلا عليه، ولا يستعين إلا به، كما قال تعالى فى النوعين: وهذا التوحيد هو الفارق بين الموحدين والمشركين، وعليه يقع الجزاء والثواب فى الأولى والآخرة، فمن لم يأت به كان من المشركين الخالدين، فإن اللّه لا يغفر أن يشرك به،ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء. أما توحيد الربوبية، فقد أقر به المشركون، وكانوا يعبدون مع اللّه غيره، ويحبونهم كما يحبونه، فكان ذلك التوحيد ـ الذى هو توحيد الربوبية ـ حجة عليهم. فإذا كان اللّه هو رب كل شىء ومليكه، ولا خالق ولا رازق إلا هو، فلماذا يعبدون غيره معه، وليس له عليهم خلق ولا رزق، ولا بيده لهم منع ولا عطاء، بل هو عبد مثلهم لا يملك لنفسه ضراً ولا نفعاً، ولا موتاً ولا حياة ولا نشوراً ؟! فإن قالوا: ليشفع فقد قال اللّه: وإذا كان اللّه لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه، ولا يشفعون إلا لمن ارتضى فما بقى الشفعاء شركاء، كشفاعة المخلوق عند المخلوق؛ فإن المخلوق يشفع عنده نظيره ـ أو من هو أعلى منه، أو دونه ـ بدون إذن المشفوع إليه، ويقبل المشفوع إليه ولا بد شفاعته إما لرغبته إليه، أو فيما عنده من قوة أو سبب ينفعه به أو يدفع عنه ما يخشاه، وإما لرهبته منه، وإما لمحبته إياه، وإما للمعاوضة بينهما والمعاونة، وإما لغير ذلك من الأسباب. وتكون شفاعة الشفيع هى التى حَرَّكَت إرادة المشفوع إليه، وجعلته مريداً للشفاعة، بعد أن لم يكن مريداً لها، كأمر الآمر الذى يؤثر في المأمور،فيفعل ما أمره به بعد أن لم يكن مريداً لفعله. وكذلك سؤال المخلوق للمخلوق، فإنه قد يكون محركا له إلى فعل ما سأله. فالشفيع كما أنه شافع للطالب شفاعته فى الطلب، فهو أيضاً قد شفع المشفوع إليه، فبشفاعته صار المشفوع إليه فاعلا للمطلوب، فقد شفع الطالب والمطلوب. واللّه تعـالى وِتْر، لا يشفعه أحد، فلا يشـفع عنده أحـد إلا بإذنه، فالأمر كله إليه وحده، فلا شريك له بوجه، ولهذا ذكر ـ سبحانه ـ نفى ذلك فى آية الكرسى، التى فيها تقرير التوحيد، فقال: وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم يوم القيامة، إذا سجد وحمد ربه، يقال له: (ارفع رأسك، وقل يسمع، وسل تعطه، واشفع تشفع، فيحد له حداً، فيدخلهم الجنة). فالأمر كله للّه، كما قال: فإذا كان لا يشفع عند اللّه أحد إلا بإذنه، فهو يأذن لمن يشاء، ولكن يكرم الشفيع بقبول الشفاعة، كما قال النبى صلى الله عليه وسلم فى الحديث الصحيح:(اشفعوا تؤجروا، ويقضى اللّه على لسان نبيه ما شاء). وإذا دعاه الداعى، وشفع عنده الشفيع، فسمع الدعاء، وقبل الشفاعة لم يكن هذا مؤثراً فيه، كما يؤثر المخلوق فى المخلوق؛ فإنه ـ سبحانه ـ هو الذى جعل هذا يدعو وهذا يشفع، وهو الخالق لأفعال العباد، فهو الذى وفق العبد للتوبة ثم قبلها وهو الذى وفقه للعمل ثم أثابه عليه، وهو الذى وفقه للدعاء ثم أجابه، فما يؤثر فيه شىء من المخلوقات، بل هو ـ سبحانه ـ الذى جعل ما يفعله سبباً لما يفعله. وهذا مستقيم على أصول أهل السنة المؤمنين بالقدر، وأن اللّه خالق كل شىء و أنه ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، ولا يكون شىء إلا بمشيئته، وهو خالق أفعال العباد، كما هو خالق سائر المخلوقات. قال يحيى بن سعيد القطان: ما زلت أسمع أصحابنا يقولون: إن اللّه خالق أفعال العباد. ولكن هذا يناقض قول القَدَريِة، فإنهم إذا جعلوا العبد هو الذى يحدث، ويخلق أفعاله بدون مشيئة اللّه وخلقه، لزمهم أن يكون العبد قد جعل ربه فاعلاً لما لم يكن فاعلاً له، فبدعائه جعله مجيباً له وبتوبته جعله قابلا للتوبة، وبشفاعته جعله قابلا للشفاعة. وهذا يشبه قول من جعل المخلوق يشفع عند الله بغير إذنه. فإن (الإذن) نوعان: إذن بمعنى المشيئة والخلق، وإذن بمعنى الإباحة والإجازة. فمن الأول: قوله فى السحر: والقدرية تنكر هذا (الإذن). وحقيقة قولهم: إن السحر يضر بدون إذن اللّه. وكذلك قوله: والنوع الثانى: قوله: فقوله: فمن جعل العباد يفعلون أفعالهم بدون أن يكون اللّه خالقاً لها، وقادراً عليها، ومشيئاً لها، فعنده كل شافع وداع قد فعل ما فعل بدون خلق الله وقدرته، وإن كان قد أباح الشفاعة. وأما الكفر، والسحر، وقتال الكفار، فهو عندهم بغير إذنه، لا هذا الإذن ولا هذا الإذن؛ فإنه لم يبح ذلك باتفاق المسلمين. وعندهم: أنه لم يشأه ولم يخلقه، بل كان بدون مشيئته وخلقه. والمشركون المقرون بالقدر يقولون: إن الشفعاء يشفعون بالإذن القَدَرِى، وإن لم يإذن لهم إباحة وجوازاً. ومن كان مكذباً بالقدر ـ مثل كثير من النصارى ـ يقولون: إن شفاعة الشفعاء بغير إذن، لا قَدَرِى ولا شرعى. والقدرية من المسلمين يقولون: يشفعون بغير إذن قدرى . ومن سأل اللّه بغير إذنه الشرعى، فقد شفع عنده بغير إذن قدرى ولا شرعي. فالداعى المأذون له فى الدعاء مؤثر فى الله عندهم، لكن بإباحته. والداعى غير المأذون له، إذا أجاب دعاءه، فقد أثر فيه عندهم لا بهذا الإذن ولا بهذا الإذن،كدعاء بلعام بن باعوراء وغيره، والله تعالى يقول: فإن قيل: فمن الشفعاء من يشفع بدون إذن اللّّه الشرعى، وإن كان خالقاً لفعله ـ كشفاعة نوح لابنه، وشفاعة إبراهيم لأبيه، وشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم لعبد اللّه بن أبّى بن سلول، حين صلى عليه بعد موته . وقوله: قيل: المنفى من الشفاعة بلا إذن هى الشفاعة التامة، وهى المقبولة، كما فى قول المصلى:(سمع اللّه لمن حمده) أى: استجاب له، وكما فى قوله تعالى: فإن الهدى، والإنذار، والتذكير، والتعليم، لابد فيه من قبول المتعلم، فإذا تعلم حصل له التعليم المقصود، وإلا قيل: علمته فلم يتعلم، كما قيل: فالشفاعة مقصودها قبول المشفوع إليه، وهى الشفاعة التامة، فهذه هى التى لا تكون إلا بإذنه، وأما إذا شفع شفيع فلم تقبل شفاعته كانت كعدمها، وكان على صاحبها التوبة والاستغفار منها، كما قال نوح: فالشفاعة المطلوبة هى شفاعة المطاع الذى تقبل شفاعته، وهذه ليست لأحد عند الله تعالى إلا بإذنه قدراً وشرعا، فلابد أن يأذن فيها، ولابد أن يجعل العبد شافعا، فهو الخالق لفعله،والمبيح له، كما فى الداعى هو الذى أمره بالدعاء، وهو الذى يجعل الداعى داعياً، فالأمر كله للّه، خلقاً وأمراً، كما قال: وقد روى فى حديث ـ ذكره ابن أبى حاتم وغيره ـ أنه قال: (فمن يثق به، فليدعه) أى: فلم يبق لغيره لا خلق ولا أمر. ولما كان المراد الشفاعة المثبتة هى الشفاعة المطلقة، وهى المقصود بالشفاعة وهى المقبولة، بخلاف المردودة، فإن أحداً لا يريدها، لا الشافع ولا المشفوع له، ولا المشفوع إليه، ولو علم الشافع والمشفوع له أنها ترد لم يفعلوها. والشفاعة المقبولة هى النافعة، بين ذلك فى مثل قوله: وقوله: قيل: إلا شفاعة من أذن له الرحمن. وقيل: لا تنفع الشفاعة إلا لمن أذن له الرحمن، فهو الذى تنفعه الشفاعة. وهذا هو الذى يذكره طائفة من المفسرين، لا يذكرون غيره؛ لأنه لم يقل: (لا تنفع إلا من أذن له) ولا قال:(لا تنفع الشفاعة إلا فيمن أذن له)، بل قال: ولا يقال: لا تنفع إلا لشفيع مأذون له، بل لو أريد هذا، لقيل: لا تنفع الشفاعة عنده إلا من أذن له، وإنما قال: وقوله: وهو ـ سبحانه ـ إذا أذن للمشفوع له فقد أذن للشافع. فهذا الإذن هو الإذن المطلق، بخلاف ما إذا أذن للشافع فقط؛ فإنه لا يلزم أن يكون قد أذن للمشفوع له، إذ قد يأذن له إذناً خاصاً. وهكذا قال غير واحد من المفسرين. قالوا: وهذا يدل على أن الشفاعة لا تنفع إلا المؤمنين، وكذلك قال السلف فى هذه الآية. قال قتادة فى قوله: قال البغوى: وقد ذكروا القولين فى قوله تعالى: منهم البغوى، فإنه لم يذكر هنا فى الاستثناء إلا المشفوع له، وقال هناك: وكذلك ذكروا القولين فى قوله: ومعنى هاتين الآيتين مثل معنى تلك الآية، وهو يعم النوعين.وذلك أنه ـ سبحانه قال: والثانى كقوله: فالشفاعة مصدر، لابد لها من شافع ومشفوع له. والشفاعة: تعم شفاعة كل شافع، وكل شفاعة لمشفوع له. فإذا قال: والشفاعة يومئذ لا تنفع لا شافعاً ولا مشفوعاً له فإنه تارة يشترط فى الشفاعة إذنه، كقوله: وتارة يشترط فيها الشهادة بالحق، كقوله: وهنا اشترط الأمرين: أن يأذن له الرحمن، وأن يقول صواباً، والمستثنى يتناول مصدر الفاعل والمفعول، كما تقول: لا ينفع الزرع إلا فى وقته، فهو يتناول زرع الحارث، وزرع الأرض، لكن هنا قال: وإن جعل فيه حذف ــ تقديره: لا تنفع الشفاعة إلا شفاعة من أذن له الرحمن ــ كان المصدر مضافاً إلى النوعين، كل واحد بحسبه، يضاف إلى بعضهم، لكونه شافعاً، وإلى بعضهم لكونه مشفوعاً له، ويكون هذا كقوله: فلهذا كان من أفصح الكلام إيجازه، دون الإطناب فيه. وقوله: وفى الآية الأخرى: لكن قد يقال: التقدير: لا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له أن يشفع فيه فيؤذن لغيره أن يشفع فيه، فيكون الإذن للطائفتين. والنفع للمشفوع له، كأحد الوجهين، أو: ولا تنفع إلا لمن أذن له من هؤلاء وهؤلاء، فكما أن الإذن للطائفتين، فالنفع أيضا للطائفتين. فالشافع ينتفع بالشفاعة، وقد يكون انتفاعه بها أعظم من انتفاع المشفوع له، ولهذا قال النبى صلى الله عليه وسلم ـ فى الحديث الصحيح : (اشفعوا تؤجروا، ويقضى الله تعالى على لسان نبيه ما شاء). ولهذا كان من أعظم ما يكرم به اللّه عبده محمداً صلى الله عليه وسلم: هو الشفاعة التى يختص بها، وهى المقام المحمود، الذى يحمده به الأولون والآخرون. وعلى هذا، لا تحتاج الآية إلى حذف، بل يكون معناها: يومئذ لا تنفع الشفاعة لا شافعاً ولا مشفوعاً ولذلك جاء فى الصحيح: أن النبى صلى الله عليه وسلم قال: (يا بنى عبد مناف، لا أملك لكم من الله من شىء، يا صفية عمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لا أملك لك من الله من شىء، يا عباس عم رسول الله، لا أملك لك من الله من شىء). وفى الصحيح أيضاً: (لا ألفين أحدكم يأتى يوم القيامة على رقبته بعير له رُغَاء أو شاة لها يُعَار أو رِقَاع تَخْفِق، فيقول: أغثنى، أغثنى، فأقول: قد أبلغتك، لا أملك لك من الله تعالى من شيء). فيعلم من هذا:أن قوله: مِنْهُ خِطَابًا} وهذه الآية تشبه قوله تعالى: وقد ذكروا فى تلك الآية قولين: أحدهما: أنه الشفاعة ـ أيضاً ـ كما قال ابن السائب: لا يملكون شفاعة إلا بإذنه. والثانى: لا يقدر الخلق على أن يكلموا الرب إلا بإذنه.قال مقاتل:كذلك قال مجاهد: قال الثورى:إذا جاءك التفسير عن مجاهد، فحسبك به.وقال:عرضت المصحف على ابن عباس: أقفه عند كل آية وأسأله عنها. وعليه اعتمد الشافعى وأحمد والبخارى فى صحيحه. وهذا يتناول الشفاعة أيضاً. وفى قوله: وقال بعضهم: هؤلاء هم الكفار، لا يملكون مخاطبة اللّه في ذلك اليوم، قال ابن عطية: قوله: {لَا يَمْلِكُونَ} الضمير للكفار، أي: لا يملكون ـ من إفضاله وإكماله ـ أن يخاطبوه بمعذرة ولا غيرها. وهذا مبتدع، وهو خطأ محض. والصحيح: قول الجمهور والسلف أن هذا عام، كما قال في آية أخرى: وقد طلبت الشفاعة من أكابر الرسل، وأولى العزم، وكل يقول:(إن ربى قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله، ولن يغضب بعده مثله، وإني فعلت كذا وكذا، نفسي، نفسي، نفسي). فإذا كان هؤلاء لا يتقدمون إلى مخاطبة الله تعالى ـ تعالى ـ بالشفاعة، فكيف بغيرهم؟ وأيضاً، فإن هذه الآية مذكورة بعد ذكر المتقين وأهل الجنة، وبعد أن ذكر الكافرين، فقال: فهم فى ذلك الموطن لا يملكون من الله تعالى شيئاً، ولا الخطاب؛فإنه لا يتكلم أحد إلا بإذنه، ولا يتكلم إلا من أذن له الرحمن وقال صوابا، قال تعالى: وقال مجاهد ـ أيضاً ـ: فعلى قول مجاهد: يكون المستثنى من أتى بالكلم الطيب والعمل الصالح. وقوله فى سوره طه: وفى حديث الشفاعة:(أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن) فهذه شفاعة في أهل الجنة؛ ولهذا قيل: إن هاتين الشفاعتين مختصتان بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويشفع غيره فى العصاة. فقوله: وقد ذكر البغوي وأبو الفرج ابن الجوزي وغيرهما في قوله: قال أبو الفرج: في معنى الآية قولان: أحدهما: أنه أراد بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ} آلهتهم، ثم استثنى عيسى وعزيزاً والملائكة، فقال: والثانى: أن المراد بـ {الَّذِينَ يَدْعُونَ} عيسى و عزيراً والملائكة، الذين عبدهم المشركون،لا يملك هؤلاء الشفاعة لأحد وقال البغوي: قلت:قد ذكر جماعة قول مجاهد وقتادة، منهم ابن أبى حاتم.روى بإسناده المعروف ـ على شرط الصحيح ـ عن مجاهد قوله: وعلى هذا، فيكون منصوبا، لا يكون مخفوضاً، كما قاله البغوي ؛ فإن الحرف الخافض إذا حذف انتصب الاسم، ويكون على هـذا يقـال: شفعته، وشفعت لـه، كما يقال: نصحته، ونصحت له. و(شفع) أي صار شفيعاً للطالب، أي لا يشفعون طالباً ولا يعينون طالباً {إلا مّن شّهٌدّ بٌالًحّقٌَ $ّهٍمً يّعًلّمٍونّ } أن الله ربهم. وروى بإسناده عن قتادة قلت: كلا القولين معناه صحيح، لكن التحقيق في تفسير الآية: أن الاستثناء منقطع، ولا يملك أحد من دون اللّه الشفاعة مطلقاً، لا يستثنى من ذلك أحد عند اللّه؛ فإنه لم يقل: ولا يشفع أحد، ولا قال: لا يشفع لأحد، بل قال: والشفاعة بإذن ليست مختصة بمن عبد من دون الله. وسيد الشفعاء صلى الله عليه وسلم لم يعبد كما عبد المسيح، وهو ـ مع هذا ـ له شفاعة، ليست لغيره، فلا يحسن أن تثبت الشفاعة لمن دعى من دون اللّه دون من لم يدع. فمن جعل الاستثناء متصلا، فإن معنى كلامه: أن من دعى من دون الله تعالى لا يملك الشفاعة، إلا أن يشهد بالحق وهو يعلم، أو لا يشفع إلا لمن شهد بالحق وهو يعلم، ويبقى الذين لم يدعوا من دون اللّه، لم تذكر شفاعتهم لأحد، وهذا المعنى لا يليق بالقرآن ولا يناسبه، وسبب نزول الآية يبطله أيضاً. وأيضاً، فقوله: قال تعالى: فإذا قيل: إنه استثنى الملائكة والأنبياء، كان فى هذا إطماع لمن عندهم أن معبوديهم من دون الله تعالى يشفعون لهم، وهذا مما يبين فساد القول المذكور عن قتادة. فإنه إذا كان المعنى: أن المعبودين لا يشفعون إلا إذا كانوا ملائكة أو أنبياء، كان فى هذا إثبات شفاعة المعبودين لمن عبدوهم، إذا كانوا صالحين، والقرآن كله يبطل هذا المعنى؛ ولهذا قال تعالى: وأيضاً،فإن في القرآن: إذا نفى الشفاعة من دونه نفاها مطلقاً؛ فإن قوله:{مِن دُونِهِ} إما أن يكون متصلا بقوله: {يملكون} أو بقوله:{يَدْعُونَ} أو بهما. فالتقدير:لا يملك الذين يدعونهم الشفاعة من دونه، أو لا يملك الذين يدعونهم من دونه أن يشفعوا. وهـذا أظهر ؛ لأنه قـال: ومثل هذا كثير فى القرآن:(يدعون من دون اللّه) و (يعبدون من دون اللّه)، كقوله: بخلاف ما إذا قيل: لا يملك الذين يدعون الشفاعة من دونه؛ فإن هذا لا نظير له في القرآن، واللفظ المستعمل فى مثل هذا أن يقال: لا يملك الذين يدعون الشفاعة إلا بإذنه، أو لمن ارتضى، ونحو ذلك. لا يقال فى هذا المعنى:(من دونه)؛ فإن الشفاعة هي من عنده، فكيف تكون من دونه؟ لكن قد تكون بإذنه، وقد تكون بغير إذنه. وأيضاً، فإذا قيل:{بَّذٌينّ يّدًعٍونّ} مطلقاً، دخل فيه الرب تعالى؛ فإنهم كانوا يدعون اللّه، ويدعون معه غيره؛ ولهذا قال: والتقدير الثالث: لا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة من دونه، وهذا أجود من الذي قبله، لكن يَرِدُ عليه ما يَرِدُ على الأول. ومما يضعفهما أن الشفاعة لم تذكر بعدها صلة لها، بل قال: وأما فى الملك، فلا يمكن أن يكون غيره مالكا لها، فلا يملك مخلوق الشفاعة بحال، ولا يتصور أن يكون نبى فمن دونه مالكا لها، بل هذا ممتنع، كما يمتنع أن يكون خالقاً وربا، وهذا كما قال: ولهذا ـ لما نفى الشفعاء من دونه ـ نفاهم نفياً مطلقاً بغير استثناء،وإنما يقع الاستثناء إذا لم يقيدهم بأنهم من دونه، كما قال تعالى: فمن تدبر القرآن تبين له أنه كما قال تعالى: وهو (مثانى) يثنى الله تعالى فيه الأقسام، ويستوفيها. والحقائق إما متماثلة، وهي (المتشابه) وإما مماثلة، وهي: الأصناف والأقسام والأنواع. وهي (المثاني). و(التثنية) يراد بها: جنس التعديد، من غير اقتصار على اثنين فقط، كما فى قوله تعالى: وقد قال حذيفة ـ رضي اللّه عنه ـ فى الحديث الصحيح الذي رواه مسلم إنه ركع نحواً من قيامه، يقول فى ركوعه: (سبحان ربى العظيم، سبحان ربي العظيم). وذكر أنه سجد نحواً من قيامه، يقول فى سجوده: (رب اغفر لي، رب اغفر لي). وقد صرح في الحديث الصحيح ـ أنه أطال الركوع والسجود بقدر البقرة والنساء وآل عمران فإنه قام بهذه السور كلها،وذكر أنه كان يقول:(سبحان ربي العظيم، سبحان ربي العظيم، سبحان ربي الأعلى، سبحان ربي الأعلى). فعلم أنه أراد بتثنية اللفظ: جنس التعداد والتكرار، لا الاقتصار على مرتين، فإن [الاثنين] أول العدد الكثير. فذكر أول الأعداد يعنى أنه عدد هذا اللفظ، لم يقتصر على مرة واحدة، فالتثنية التعديد، والتعديد يكون للأقسام المختلفة. وليس في القرآن تكرار محض، بل لابد من فوائد في كل خطاب. فـ [المتشابه] فى النظائر المتماثلة، و[المثاني] في الأنواع. وتكون التثنية في المتشابه، أي هذا المعنى قد ثنى في القرآن لفوائد أخر. فـ [المثاني] تعم هذا وهذا. وفاتحة الكتاب: هي [السبع المثاني] لتضمنها هذا وهذا، وبسط هذا له موضع آخر. والمقصود هنا أن قوله: كأنه قد قيل: فإذا لم يملكوها، هل يشفعون في أحد؟ فقال: نعم وهذا يتناول الشافع والمشفوع له،فلا يشفع إلا من شهد بالحق وهم يعلمون، فالملائكة والأنبياء والصالحون ـ وإن كانوا لا يملكون الشفاعة ـ لكن إذا أذن الرب لهم شفعوا، وهم لا يؤذن لهم إلا في الشفاعة للمؤمنين، الذين يشهدون أن لا إله إلا اللّه، فيشهدون بالحق وهم يعلمون، لا يشفعون لمن قال هذه الكلمة تقليداً للآباء والشيوخ، كما جاء الحديث الصحيح:(إن الرجل يسأل فى قبره: ما تقول في هذا الرجل ؟ فأما المؤمن، فيقول: هو عبد اللّه ورسوله، جاءنا بالبينات والهدى. وأما المرتاب، فيقول: هاه هاه، لا أدري، سمعت الناس يقولون شيئاً فقلته) فلهذا قال: وقد تقدم قول ابن عباس؛ يعني من قال:(لا إله إلا الله تعالى) يعنى: خالصا من قلبه. والأحاديث الصحيحة الواردة في الشفاعة، كلها تبين أن الشفاعة إنما تكون فى أهل (لا إله إلا اللّه). وقد ثبت فى صحيح البخاري: أن أبا هريرة قال لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال: (يا أبا هريرة، لقد ظننت ألا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك؛ لما رأيت من حرصك على الحديث، أسعد الناس بشفاعتى يوم القيامة من قال: لا إله إلا الله تعالى، خالصا من قبل نفسه). فبين أن المخلص لها من قبل نفسه، هو أسعد بشفاعته صلى الله عليه وسلم من غيره ممن يقولها بلسانه، وتكذبها أقواله وأعماله. فهؤلاء هم الذين شهدوا بالحق، شهدوا (أن لا إله إلا الله تعالى)، كما شهد الله تعالى لنفسه بذلك وملائكته وأولو العلم فإذا شهدوا ـ وهم يعلمون ـ كانوا من أهل الشفاعة، شافعين، ومشفوعا لهم. فإن المؤمنين أهل التوحيد يشفع بعضهم فى بعض، كما ثبت ذلك فى الأحاديث الصحيحة، كما ثبت فى الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري ـ رضي اللّه عنه ـ عن النبى صلى الله عليه وسلم قال ـ في الحديث الطويل، حديث التجلي والشفاعة ـ: (حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيده، ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله تعالى فى استيفاء الحق من المؤمنين للّه يوم القيامة لإخوانهم الذين فى النار، يقولون: ربنا، كانوا يصومون معنا، ويصلون، ويحجون.فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم، فتحرم صورهم على النار) وذكر تمام الحديث. وسبب نزول الآية ـ على ما ذكروه ـ مؤيد لما ذكره. قال أبو الفرج ابن الجوزى: سبب نزولها: أن النضر بن الحارث ونفراً معه قالوا: إن كان ما يقول محمد حقا، فنحن نتولى الملائكة، فهم أحق بالشفاعة من محمد، فنزلت هذه الآية. قاله مقاتل. وعلى هذا، فيقصد أن الملائكة وغيرهم لا يملكون الشفاعة، فليس توليكم إياهم، واستشفاعكم بهم بالذي يوجب أن يشفعوا لكم؛ فإن أحداً ممن يدعى من دون اللّه لا يملك الشفاعة، ولكن فالذي تنال به الشفاعة هى الشهادة بالحق، وهي شهادة أن لا إله إلا اللّه، لا تنال بتولى غير اللّه؛ لا الملائكة، ولا الأنبياء ولا الصالحين. فمن والى أحداً من هؤلاء ودعاه، وحج إلى قبره، أو موضعه، ونذر له، وحلف به، وقرب له القرابين ليشفع له، لم يغن ذلك عنه من اللّه شيئاً، وكان من أبعد الناس عن شفاعته وشفاعة غيره؛ فإن الشفاعة إنما تكون لأهل توحيد اللّه، وإخلاص القلب والدين له، ومن تولى أحدا من دون الله فهو مشرك. فهذا القول والعبادة ـ الذي يقصد به المشركون الشفاعة ـ يحرم عليهم الشفاعة، فالذين عبدوا الملائكة والأنبياء والأولياء والصالحين،ليشفعوا لهم،كانت عبادتهم إياهم وإشراكهم بربهم، الذي به طلبوا شفاعتهم، به حرموا شفاعتهم، وعوقبوا بنقيض قصدهم؛ لأنهم أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا. وكثير من أهل الضلال يظن أن الشفاعة تنال بهذه الأمور التى فيها شرك، أو هي شرك خالص، كما ظن ذلك المشركون الأولون، وكما يظنه النصارى، ومن ضل من المنتسبين إلى الإسلام، الذين يدعون غير اللّه، ويحجون إلى قبره أو مكانه، وينذرون له، ويحلفون به، ويظنون أنه بهذا يصير شفيعاً لهم، قال تعالى: قال طائفة من السلف: كان أقوام يعبدون المسيح والعزير والملائكة، فبين الله أنهم لا يملكون كشف الضر عنهم ولا تحويله، كما بين أنهم لا يملكون الشفاعة، وهذا لا استثناء فيه، وإن كان الله يجيب دعاءهم، ثم قال: وللناس فى الشفاعة أنواع من الضلال، قد بسطت في غير هذا الموضع. فكثير منهم يظن أن الشفاعة هى بسبب اتصال روح الشافع بروح المشفوع له، كما ذكر ذلك أبو حامد الغزالى وغيره، ويقولون: من كان أكثر صلاة على النبى صلى الله عليه وسلم، كان أحق بالشفاعة من غيره،وكذلك من كان أحسن ظناً بشخص، وأكثر تعظيماً له، كان أحق بشفاعته. وهذا غلط، بل هذا هو قول المشركين الذين قالوا: نتولى الملائكة ليشفعوا لنا، يظنون أن من أحب أحدا، من الملائكة والأنبياء والصالحين وتولاه، كان ذلك سبباً لشفاعته له. وليس الأمر كذلك بل الشفاعة سببها توحيد اللّه وإخلاص الدين والعبادة بجميع أنواعها له، فكل من كان أعظم إخلاصا كان أحق بالشفاعة، كما أنه أحق بسائر أنواع الرحمة؛ فإن الشفاعة من اللّه مبدؤها، وعلى الله تعالى تمامها، فلا يشفع أحد إلا بإذنه، وهو الذى يأذن للشافع، وهو الذى يقبل شفاعته فى المشفوع له. وإنما الشفاعة سبب من الأسباب التى بها يرحم اللّه من يرحم من عباده، وأحق الناس برحمته هم أهل التوحيد والإخلاص له، فكل من كان أكمل فى تحقيق إخلاص (لا إله إلا اللّه) علماً وعقيدة، وعملاً وبراءة، وموالاة ومعاداة، كان أحق بالرحمة. والمذنبون ـ الذين رجحت سيئاتهم على حسناتهم فخَفَّت موازينهم فاستحقوا النارـ من كان منهم من أهل (لا إله إلا اللّه) فإن النار تصيبه بذنوبه، ويميته اللّه فى النار إماتة، فتحرقه النار إلا موضع السجود، ثم يخرجه اللّه من النار بالشفاعة، ويدخله الجنة، كما جاءت بذلك الأحاديث الصحيحة. فبين أن مدار الأمر كله على تحقيق كلمة الإخلاص، وهى (لا إله إلا اللّه) لا على الشرك بالتعلق بالموتى وعبادتهم، كما ظنه الجاهليون، وهذا مبسوط فى غير هذا الموضع. والمقصود هنا أن النبى صلى الله عليه وسلم كان يجمع بين (الحمد) الذى هو رأس الشكر، وبين (التوحيد والاستغفار) إذا رفع رأسه من الركوع فيقول:(ربنا ولك الحمد، ملء السموات وملء الأرض وملء ما بينهما، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت، ولا ينفع ذا الجَد منك الجد) ثم يقول: (اللهم طهرنى بالثلج والبرد، والماء البارد، اللهم طهرنى من الذنوب والخطايا كما يُنَقى الثوب الأبيض من الدَّنَس) كما رواه مسلم فى الصحيح عن أبى سعيد الخدرى ـ رضى الله تعالى عنه ـ قال:كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسهمن الركوع قال:(اللهم ربنا لك الحمد، ملء السموات، وملء الأرض، وملء ما شئت من شىء بعد، أهل الثناء والمجد، أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت، ولا معطى لما منعت ولا ينفع ذا الجد منك الجد). وروى مسلم ـ أيضا ـ عن عبد الله بن أبى أوفى ـ رضى الله عنه ـ قال:كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال:(سمع الله لمن حمده،اللهم ربنا لك الحمد،ملء السموات وملء الأرض،وملء ما شئت من شىء بعد،اللهم طهرنى بالثلج والبرد،والماء البارد، اللهم طهرنى من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الوَسَخ). وقد روى مسلم فى صحيحه أيضاً عن النبى صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول:(اللهم لك الحمد)، وقال:(وملء الأرض، وملء ما بينهما)، ولم يذْكَر فى بعض الروايات؛ لأن (السموات والأرض) .قد يراد بهما العلو والسفل مطلقاً، فيدخل فى ذلك الهواء وغيره؛ فإنه عال بالنسبة إلى ما تحته، وسافل بالنسبة إلى ما فوقه، فقد يجعل من السماء، كما يجعل السحاب سماء، والسقف سماء،وكذا قال فى القرآن: فتارة يذكر قوله:(وما بينهما) فيما خلقه فى ستة أيام، وتارة لا يذكره، وهو مراد؛ فإن ذكره كان إيضاحاً وبياناً، وإن لم يذكره دخل فى لفظ (السموات والأرض) .ولهذا كان النبى صلى الله عليه وسلم تارة يقول: (ملء السموات وملء الأرض) ولا يقول:(وما بينهما)، وتارة يقول:(وما بينهما) وفيها كلها:(وملء ما شئت من شىء بعد)، وفى رواية أبى سعيد: (أحق ما قال العبد) إلى آخره، وفى رواية ابن أبى أوْفَى: (الدعاء بالطهارة من الذنوب). ففى هذا، الحمد رأس الشكر والاستغفار، فإن ربنا غفور وشكور، فالحمد بإزاء النعمة، والاستغفار بإزاء الذنوب. وذلك تصديق قوله تعالى: ففى سيد الاستغفار:(أبوء لك بنعمتك عليّ وأبوء بذنبى)، وفى حديث أبي سعيد: (الحمد رأس الشكر والتوحيد)، كما جمع بينهما في أم القرآن؛ فأولها تحميد، وأوسطها توحيد، وآخرها دعاء، وكما في قوله: وفى حديث الموطأ: (أفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلى: لا إله إلا الله تعالى، وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهوعلى كل شىء قدير من قالها كتب الله تعالى له ألف حسنة، وحط عنه ألف سيئة وكانت له حِرْزًا من الشيطان يومه ذلك، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل قال مثلها، أو زاد عليه، ومن قال فى يوم مائة مرة: سبحان اللّه وبحمده، حطت خطاياه، ولو كانت مثل زَبَد البحر). وفضائل هذه الكلمات فى أحاديث كثيرة، وفيها: التوحيد والتحميد. فقوله: (لا إله إلا اللّه، وحده لا شريك له) توحيد، وقوله: (له الملك وله الحمد) تحميد، وفيها معان أخرى شريفة. وقد جاء الجمع بين التوحيد، والتحميد، والاستغفار، فى مواضع؛ مثل حديث كفارة المجلس: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) فيه: التسبيح، والتحميد، والتوحيد، والاستغفار. من قالها فى مجلس؛ إن كان مجلس لغط كانت كفارة له، وإن كان مجلس ذكر كانت كالطابع له، وفى حديث أيضا: (إن هذا يقال عقب الوضوء). ففى الحديث الصحيح ـ فى مسلم وغيره ـ من حديث عقبة عن عمر بن الخطاب ـ رضى اللّه عنه ـ أنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: (ما منكم من أحد يتوضأ فيَسْبغ الوضوء، ثم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، إلا فُتحِِت له أبواب الجنة الثمانية، يدخل من أيها شاء). وفى حديث آخر أنه يقول: (سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك) . وقد روى عن طائفة من السلف، فى الكلمات التى تلقاها آدم من ربه، ونحو هذه الكلمات. روى ابن جرير عن مجاهد أنه قال: (اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك، رب إنى ظلمت نفسى،فاغفر لى، إنك خير الغافرين، اللهم لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك،رب إنى ظلمت نفسى فارحمنى، فأنت خير الراحمين،لا إله إلا أنت، سبحانك وبحمدك،رب إنى ظلمت نفسى، فتب على، إنك أنت التواب الرحيم).فهذه الكلمات من جنس خاتمة الوضوء،وخاتمة الوضوء فيها التسبيح،والتحميد،والتوحيد، والاستغفار. فالتسبيح، والتحميد، والتوحيد لله تعالى؛ فإنه لا يأتى بالحسنات إلا هو. والاستغفار من ذنوب النفس، التى منها تأتى السيئات. وقد قرن اللّه فى كتابه بين التوحيد، والاستغفار فى غيرموضع، كقوله: وفى حديث رواه ابن أبى عاصم وغيره:(يقول الشيطان: أهلكتُ الناس بالذنوب، وأهلكونى بالاستغفار، وبلا إله إلا الله، فلما رأيت ذلك بَثَثْت فيهم الأهواء، فهم يذنبون ولا يستغفرون؛ لأنهم يحسبون أنهم يحسنون صُنُعًا). و(لا إله إلا اللّه) تقتضى الإخلاص والتوكل والإخلاص [يقتضى] الشكر، فهى أفضل الكلام، وهى أعلى شعب الإيمان، كما ثبت فى الصحيحين عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه قال: (الإيمان بضْعُ وستون ـ أو بضع وسبعون ـ شُعْبَة، أعلاها قول لا إلا إلا اللّه، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق، والحياء شعبة من الإيمان). فـ (لا إله إلا اللّه) هى قطب رحَى الإيمان، وإليها يرجع الأمر كله. والكتب المنزلة مجموعة فى قوله تعالى:
|